بين الحين والآخر تخرج علينا أوراق عمل وتقارير مؤسسية تحمل في طياتها تشخيصا دقيقا لأوجه الخلل وتطرح وصفات عملية

البرلمان,رحاب التحيوي,حقوق الانسان,التقرير السنوي للمجلس القومي لحقوق الإنسان,المجلس القومي لحقوق الانسان

الأحد 21 ديسمبر 2025 - 17:12

د. رحاب التحيوي تكتب: قراءة في توصيات حقوق الإنسان "وكسر الدائرة المغلقة"

الدكتورة رحاب التحيوي
الدكتورة رحاب التحيوي

بين الحين والآخر، تخرج علينا أوراق عمل وتقارير مؤسسية تحمل في طياتها تشخيصًا دقيقًا لأوجه الخلل، وتطرح وصفات عملية للعلاج، ويأتي التقرير السنوي للمجلس القومي لحقوق الإنسان ضمن هذه الوثائق الهامة التي ينبغي ألا تمر مرور الكرام، بل تستوجب وقفة تأمل وتفاعلًا جادًا، فما يقدمه التقرير ليس مجرد سرد إحصائي أو انتقادات نظرية، بل هو في جوهره تشريح لواقع تشريعي وسياسي معقد، مع إصرار على ربط أورام الماضي بآلام الحاضر، وتقديم مقترحات عملية للخروج من الدائرة المغلقة التي تعاني منها حركة الحقوق والحريات، وبالتالي المشهد العام في مصر.

يضع التقرير يده بجرأة على نقطة بالغة الأهمية حيث  فجوة التطبيق والثغرات التشريعية، فهو لا يتناول قوانين افتراضية، بل يشير صراحة إلى تشريعات سبق وأن أقرها مجلس النواب، وأصبحت جزءًا من المنظومة القانونية، مثل قانون تنظيم اللجوء وقانون الإجراءات الجنائية الجديد. 

النقاش هنا يتعدى مرحلة "الرفض" أو "القبول" للقانون ذاته، بل ينتقل إلى مرحلة أكثر نضجًا، وهي مرحلة المراجعة والتطوير بناءً على الممارسة العملية والتأثيرات الواقعية.

ويطرح التقرير تساؤل، هل حققت هذه القوانين أهدافها الإنسانية أو الإجرائية؟ أم أنها خلقت إشكاليات جديدة، سواء بسبب صياغتها التقليدية أو بسبب افتقارها لضمانات كافية؟.. 

والدعوة إلى "العمل على معالجة الإشكاليات" و"إدخال تعديلات إذا لزم الأمر" هي دعوة لتفعيل دور المؤسسة التشريعية في الرقابة المستمرة على منتجها القانوني، وعدم الاكتفاء بإصدار القوانين ثم تركها بمعزل عن التقييم، هنا يلامس التقرير نقطة شديدة الحساسية، فبعد حوار وطني واسع، يخرج التقرير ليذكرنا بتوصيات ظلت حبيسة الأدراج، وعلى رأسها قانون تداول المعلومات. 

وذكر هذا القانون ليس اعتباطيًا، فهو يمثل عصب الشفافية ومحور مكافحة الفساد، وتأخيره أو تجاهله يرسل رسائل سلبية حول أولويات الإصلاح الحقيقية.. التقرير، بذلك، يحول كلام الحوار من شعارات إلى مطالب قابلة للقياس: أين القوانين المُوعودة؟ وأين الأطر التشريعية التي من شأنها ترجمة الحوار إلى سياسات فعلية؟

يخصص التقرير جزءًا مهمًا لتشريعات تنظيم الحياة السياسية، خاصة قوانين الانتخابات، والدعوة إلى "إعادة النظر في التوازنات الخاصة بالمشاركة السياسية" و"تعديل الدوائر الانتخابية" و"توسيع نطاق التمثيل" ليست دعوات للفوضى، بل هي محاولة لضخ دماء جديدة في الجسد السياسي، وتحفيز التنافسية الحقيقية التي تثري العمل الوطني، وهو ما يتقاطع مع الدعوة لإصدار قانون الإدارة المحلية الجديد، لتوفير بيئة قانونية لإجراء انتخابات محلية متأخرة منذ سنوات، مما يعيد الحياة للمشاركة على المستوى المحلي، كمدخل حقيقي للإصلاح السياسي.

القراءة المُتأنية لتوصيات هذا التقرير تكشف عن رؤية متكاملة وعميقة، ترى أن المشهد السياسي والحقوقي في مصر ليس مقاطعًا منفصلة، بل هو نسيج واحد متشابك، فقانون اللاجئين يؤثر على السمعة الدولية وحقوق الإنسان، وقانون تداول المعلومات يؤثر على الشفافية ومكافحة الفساد، وقوانين الانتخابات تؤثر على تمثيل الإرادة الشعبية وحيوية المشهد السياسي، وقانون الإجراءات الجنائية يؤثر على ثقة المواطن في العدالة.

لذا، فإن الدعوة الموجهة لسلطات الدولة المختلفة – التشريعية والتنفيذية – للتعاطي الجاد مع هذه التوصيات، هي دعوة لـ كسر الدائرة المغلقة. دائرة إصدار تشريعات مثيرة للجدل، ثم ظهور تقارير تنتقدها، ثم تجاهل هذه الانتقادات، مما يؤدي إلى تراكم الإشكاليات واحتقان المشهد. التعاطي الإيجابي مع مثل هذه التوصيات ليس تنازلًا، بل هو دليل قوة وثقة ووعي بأن بناء الدولة القوية يرتكز على مؤسسات فاعلة وقوانين عادلة ومساحة حوار حقيقية.

فهل نستمع لهذه الدعوة العاقلة، أم نظل ندور في الحلقة نفسها، بين تشريع معيب وتطبيق مشوه وتقرير يتم تجميده، بينما يدفع الجميع ثمن ذلك الجمود؟ السؤال معلق، والإجابة ستشكل ملامح المرحلة القادمة.